رنين المنبه
قطرات الماء التي تتسرب من الصنبور المكسور حافرة الأرض بلا توقف
هدير المكيف المهترئ
صوت أنفاسه الذي دائمًا ما يُثير أعصابها
أسباب اتحدت جميعها لتسلب لذيذ النوم من عينيها
مدت يدها بعصبية واضعةً إياها على كتفه ثم هزته هزًا عنيفًا وكأنها تفرغ كل
الغضب المتراكم داخل صدرها.
-
استيقظ وأطفئ هذا المنبه اللعين قبل أن
أكسره! لماذا عليَّ أن استيقظ معك؟ لماذا لا أرتاح حتى في نومي؟ أما كفاك هذا
المعيشة الضنكا التي رميتني فيها، صرت حتى تستكثر عليّ هذا المهرب الصغير؟
-
بدأت الأسطوانة اليومية.
قالها حسن ثم فتح عينيه، لم يكن نائمًا، كان يتظاهر. ثم أردف قائلًا:
لستِ أنتِ الوحيدة التي تحاول الهرب. وراح يلملم نفسه ويصطلب واقفًا.
تأمل حسن وجهه في المرآة، كان وجهًا طويلًا نحيلًا تتوسطه عينان غائرتان
وأنفًا ضخمًا وفمًا كحبة الفستق، وتغطيه التجاعيد التي رسمتها مشاق الحياة لا
زمنها، ثم شطفه بالماء سريعًا وخرج إلى غرفة المعيشة ليجمع كتبه (مصدر رزقه)
حاملًا إياها للعربة التي وضعها عند مدخل الباب. وعندما انتهى من تجهيز عربته صاح
قائلًا: أتريدين شيئًا قبل أن أخرج؟
ردت فاطمة بصوتها الحاد من غرفة النوم: لا تنسَ احضار البطاطس، كعادتي أطلبها وأنا أعلم أنك لن تحضرها، في كل مرة تعود خاوٍ اليدين، كل مرة!
عبس حسن وجهه قائلًا: حسنًا، لن أنسى. ثم دفع العربة خارجًا من
المنزل.
أغمضت فاطمة عينيها وهي تردد داخلها: حريّ به أن يحضر البطاطا، حريّ به ألا ينساها، أما كفاه أنه نسي أن يقولها، أما كفاه أنه أصبح جافًا كصحراء قاحلة، حريّ به ألا ينسى تلك البطاطس. ثم سقطت دموع حارة حاولت تلافيها غاسلة وجهها الأبيض المتورد حتى وقفت عند شفتيها المكتنزتين.
كان الطريق بين منزل حسن والجسر الذي يفترشه ليبيع كتبه قصير، فكانت تكفيه 15 دقيقة من المشي ليصل إلى هناك. وخلال هذا الوقت، غرق حسن في تفكيره. فكر في فاطمة كثيرًا، وفي أيامهما الخوالي. فكر في اللقاء الأول. شعر بحنين يداهمه لتلكِ الفاطمة، تلك الفتاة الباسمة الخجولة، تلك التي أحبها منذ أول كلمة نطقت بها. تلك التي تعلم على يدها معنى الحب، معنى أن تنبت حقول من الورد في قلب أجوف. أين هي الآن؟ راح يتساءل: لماذا باتت فاطمتي بهذه القسوة. لماذا لم تعد تهتم بي كالسابق. كيف يمكن لحب متقد كالذي عشناه التحول لشتاء قارس هكذا. قاطع أفكاره صوت بوق سيارة مسرعة قادمة من الخلف. اختل معها توازنه وسقطت العربة بكتبها على جال الطريق.
- ليس ثمّة بداية أفضل من هذه تبدأ بها يومك.
قالها حسن وهو يرفع العربة ويعيد الكتب كما كانت. ثم مشى بضع خطوات ووصل إلى
البقعة التي يفترشها دائمًا. وضع بساطه المتواضع وصف كتبه واضعًا الروايات
الرومانسية في المقدمة، فهي أول ما يلفت انتباه المارة.
-
كم نحن غريبون أيها البشر، نحب القصص
الرومانسية ونتلذذ بالنهايات العاطفية السعيدة، لكن عندما نعيش واحدة منها نتفنن
دائمًا في تدميرها.
وما لبث أن استوقفه منظر زوجان شابان متشابكا الأيدي قادمان من الجهة
المقابلة. هذه فرصته لعرض إحدى تلك الروايات ذات النهايات الرخيصة وكسب بعض المال
منها، أو هكذا فكر. ولكن قبل أن يصيح عارضًا بضاعته عليهما، توقفت أمامه امرأة
عجوز تتأمل تلك الروايات العاطفية وتقلبها بيدها. ثمّ امسكت برواية "كبرياء
وتحامل" وقالت: يا لها من رواية بديعة، قرأتها في صباي مرة وحُفرت في ذاكرتي.
رد حسن: وهي كذلك. إنها رواية تخبرنا ألا نحكم على الشخص عبر الأقاويل التي
نسمعها عنه والسمعة التي تلاحقه فغالبًا ما تكون ظالمة.
أجابت السيدة العجوز ضاحكةً: بكلّ تأكيد فلو سمعت تلك الأقاويل لما تزوجت
محسن فلم يكن رجلًا صالحًا في نظر الكثيرين.
قال حسن في فضولٍ: كيف ذاك!
فردت: إنها قصّة طويلة ولأختصرها لك، كان محسن إنسانا طموحًا في زمن يُعتبر
فيه الطموح ضربًا من الجنون. لم يكن يرضي بالقليل وكان دائمًا ما يسعى للمكانة التي تليق به
رغم كل الظروف التي تكبله. كان انسانًا عنيدًا وجامحًا، لم يسمح لأحد أيًا كان حتى ولو كان أقرب الناس له أن يوقفه، ومن المفارقة أن كل تلك الاسباب هي التي جعلتني
أحبه، أحبه حبًا جما.
ابتسم حسن وقال: أما زلتِ تحبينه حتى الآن؟
أجابت وفي عينيها التمع حنين غامض: وسأظل أحبه، فحتى الموت لم ينزع حبه من
قلبي.
عمّت لحظة هدوء حزينة بين الاثنين، قبل أن يطرح حسن سؤالًا يحرقه: وما سر
استمرارية الحب؟
ردت العجوز باسمة: لن أقول لك الرومانسيات الفارغة، ولن أقول لك التشابه
المُمل، فقد كنت أنا ومحسن نقيضين في كل شيء، لكن ما وطدّ حبنا ورسّخه كان
صراحتنا. لم نكن نخبئ شيئًا عن بعضنا، ولم نكتم مشاعرنا. لم نكن نكبت ما يزعجنا.
كنا كتابين مفتوحين لبعضنا وهذا سبب تفاهمنا. ثمّ قالت مستعجلة وكأنها تحاول إنهاء الموضوع: بالمناسبة بكم هذه
الرواية عليك مراعاتي.
ابتسم حسن وقال: بخمسة عشر قرشًا وهو سعر أقدمه لكِ فقط.
مدّت السيدة العجوز المبلغ ضاحكة وأخذت روايتها ثم ذهبت في طريقها.
قال حسن: حسنًا هاقد أمنت مبلغ البطاطس، ستكون فاطمة راضية عنّي هذا المساء.
قاطع صوت صراخ قادم من آخر الجسر لحظات سكينته. كان رجال الحكومة يسحبون
البضائع، بضاعة تلو الأخرى، ويلطمون الباعة المعترضين بالهراوات. لم يكن افتراش
الجسر والبيع فوقه قانونيًا لكن لم يسبق أن حدثت حملة مباغتة كما اليوم، فغالبًا
ما يصل إلى مسامع الباعة موعد وصول رجال الشرطة ليأخذوا حذرهم.
وبدون تفكير أخذ حسن المرتعش يلملم كتبه محاولًا جمع أكبر عدد يقدر عليه،
لكن الآوان قد فات فهاهو الضابط ضخم الجثة يقف أمامه ويسحب بساطه دون أي مراعاة.
وقف حسن صارخًا: توقف هذا مصدر رزقي الوحيد، ورائي عائلة تعتاش منه، لا تقطع رزقي
أرجوك. لكن الضابط سدد له لكمة على وجهة أفقدته توازنه وتراجع متكئًا على حافة
الجسر.
راح حسن ينظر إلى عربته وهي تُجر بعيدًا وقلبه يتمزق حسرة. انتهى كل شيء، لم
يعد لدي ما أقدمه. انتهى.
وما لبث أن وقف يتطلع إلى منظر الغروب من حافة الجسر، ثمّ تسلق أسواره واقفًا أعلاه. لماذا نكافح ونشقى في هذه الحياة إن كان الموت بسيطًا هكذا. لم يعد ثمّة شيء يستحق العيش من أجله، لم يعد ثمّة شيء يستحق الكفاح له.
أغمض حسن عينيه متحركًا خطوة للأمام، لكن
وجهًا باسمًا ظهر أمامه فجأة. هذه المرأة وجه فاطمة المليء بالتجاعيد، فاطمة
المتجهمة دائمًا ذات الخمسة والأربعين عامًا. هاهي تبتسم له تلك الابتسامة البريئة
مرة أخرى. هاهي تعيد لقلبه نبضًا كان قد نسيه. هاهي تزرع ورودًا في قلبه القاحل
مرة أخرى.
فتح عينيه على الفور وتراجع للخلف. ثم نزل من أعلى الجسر واخرج الخمسة عشر
قرشًا من جيبه وقال:
-
يجدر بي شراء البطاطس ففاطمة تنتظر!
تعليقات
إرسال تعليق