تأملات خاطفة

 






ونحن على أعتاب العام الجديد أخذت أتامل بعين المتعلم ما جرى خلال عام أستطيع أن أدعوه بـ"عام الدروس"، ولأقول الحقيقة، لم يكن ثمّة خسارة يمكن ذكرها سوا موت أمي - فحتى المواقف التي ظننت أنني خسرت فيها تبين لاحقًا أنها مكاسب- ومع ذلك كان موتها رغم مرارته درسًا يحمل في طياته معانٍ كثيرة أعظمها رحمة الله.

لكن لن أتحدث هُنا عمّا جرى لأمي، وعن المشاعر التي لا زالت تخالجني كلما ذكرت ذلك اليوم، ولا عن الفجوة التي أحدثها غيابها، لأنني أظن بأنه ليس هذا هو المكان ولا الزمان المناسبين، فموت الأحبة في نظري أعظم خسارة يذوقها الإنسان، ولكنه في الوقت نفسه أفضل مهذب للنفس البشرية، فهو يأتي كصفعة تعيدك بقوة لأرض الواقع، تجعلك ترى الحياة كما هي -عابرة لا دائم فيها- وتعيد معه ترتيب حساباتك ووضع أولوياتك، لذا يحتاج الحديث عمّا جرى صفحات مستقلة.

أنا هنا لأتامل أعظم مكاسب العام المنصرم، وأساعدك أيها القارئ العزيز على رؤية الأمور من منظور آخر، حيث سنصبغ معًا الخسارة بطلاء النصر، ونتوج أيامنا السوداء بلقب أفضل معلم، ونشكر سويًا كل من خذلونا، فلولا الخذلان ما عرفنا معادن الناس وما فرقنا بين الخبيث والطيب، ولولا الخسارات ما ابتكرنا طرقًا أخرى قادتنا للانتصارات -وإن صغرت- ولولا الأيام السوداء ما عرفنا طعم الليالي الحلوة.

الكثيرون منّا فقدوا أمورًا ظنّو أنهم لن يستطيعوا العيش بعدها -وظيفة، منزل، أصدقاء، شركاء حياة ألخ- فيما عانى أخرون من أمراض مستعصية فقدوا معها الرغبة في العيش، وأجزم بأن الكثيرون عاشوا لحظات ظنوا أنها النهاية، وبأن الغد مهما كان لن يأتي بخير، وأن الحياة توقفت تمامًا في تلك الساعة، تلك اللحظات التي يشعر فيها المرء وكأنه عالق في نفق مظلم لا أمل له في النجاة. 


لكنها مع قسوتها ومراراتها تمضي، صدقوني فحتى أكثر اللحظات قسوة ستكون ذكرى في نهاية المطاف، إذ يُقال بأن الوقت كفيل بكل شيء، وهذا صحيح جزئيًا لكن تحتاج أيضًا أن تثابر، أن تشارك همومك مع من يشبهك - وإن كانت ورقة- أن تختار رفاقك بعناية وتبتعد عن كل ما هو سلبي، أن تنأى بنفسك عن كل ما يقيدك، عن كل ما يخبرك بأنك لست كافٍ، أن تختار نفسك دائمًا وأبدًا وحينها فقط ستغدو كل خسارة ربح، وستشعر بلذة كل انتصار. 


إن أعظم ما تعلمته هذا العام هو حب الذات، حبها بطريقة لا اؤذي فيها أحد، حبها بالطريقة الصحيحة، فحين تكون في موضع يستهان فيه بوجودك غادر، وحين تجد فرصة أفضل من المكان الذي أنت فيه انتهزها حتى وإن كنت مستريحًا في منطقة راحتك، وحين يطلب منك عزيزًا أمرًا لا تستطيع تنفيذه اعتذر لا تثقل نفسك بالمجاملات. كن كما أنت حتى وإن لم يعجب الآخرون ذلك، تصالح مع ذاتك لاتلمها على أخطاء الماضي ولا تكثر معاتبتها، كن رقيقًا معها يكفيك قسوة العالم، وحين تقوم بكل هذا، حينها فقط ستعيش عامك كما تحب أن يكون، حافلًا بالإنجازات والأيام السعيدة. 


تعليقات