أطلّ برأسه من نافذة القطار هربًا مما اضناه داخله. كانت الأشجار تتمايل على مدّ بصره دون كلل أو ملل، والأزهار بألوانها البديعة تتماهى حتى غدت كقوس قزح سرمدي، فيما كانت غيوم السماء تسير مسرعة نحو الجنوب عكس وجهته وكأنها في سباق مع الزمن.
أغمض حسان عينيه وحلق فوق هذه البقعة الخلابة، وراح يتنقل بين الأزهار فيما كان النسيم يحرك أغصان الأشجار وكأنها تتراقص فرحا بقدومه. تغلغل الهواء بين خصلات شعره وتلاعب بها وأحس عندها بالانتعاش ثمّ ابتسم ورفع رأسه نحو السماء وقرر أن يمضي لها فلم يعد ثمّة ما يمنعه من بلوغها. مد ساعديه على مداهما وحلق. كانت هذه هي المرة الأولى التي يُحس فيها بحريته، حرٌ كطيرٍ طليق لا شيء يقيده، ولم تستغرق رحلته من قاع الأرض حتى عنان السماء سوى ثوانٍ معدودة لم يشعر بها لفرط السعادة التي تملكته.
وما إن بلغ مملكة السماء حتى وقف مدهوشاً مما رأى. كانت الغيوم متراكمة فوق بعضها البعض فيما تخللتها ومضات برق خافتة راحت تقفز في خفةٍ من غيمة إلى أخرى، وفي أعلى تلك الغيوم تكّوم قصر قطني أبيض اللون يشبه غزل البنات. اقترب حسان من القصر بحذر وهبط بهدوء خشية الوقوع، ثمّ وقف ثابتًا على الأرض القطنية التي كانت صلبة كالحديد ومشى نحو المدخل مقترباً من الباب الحديدي الذي يشوبه الصدأ. وظنّ بداية أنه مقفل لكن ما أن توكأ عليه حتى تفتت بين يديه. وعلى إثره انبثق ممرّ طويل ارتسمت على جدرانه وجوه مألوفة ظنها حسان طُمست بفعل الزمن. رأى وجه جدته المبتسم دائمًا مرسومًا بإتقان في بداية الممرّ وإلى جانبه وجهًا دميمًا وعابسًا يعود لمسعود عمه اللئيم، وتتالت الوجوه في ذاك الممرّ، فهذا وجه فادي صديق طفولته، ذاك الفتى البشوش الذي لم يعرف العبوس طريقًا لوجهه، وذاك وجه ليلى حبه البريء التي لم تفارق قلبه حتى في عالم الأحلام، ووجه سمير معلمه البدين، ونادر مدربه الشديد. كان ممرًا زاخرًا بالذكريات الحلوة والمريرة في آن، مليئًا بوجوه أحبها، وأخرى أراد دفنها بعيدًا في أعماق الذاكرة.
في ممرّ الذكريات ذاك، ترنّح حسان كثيرًا، ما بين فرح وحزن، ما بين حب وكره، ما بين تسامح وحقد. ودون سابق إنذار رأى وجهًا كان سببًا في تعكير حياته الفانية، وجهًا تمنى لو أنه نساه كما يُنسى الفقراء في محافل الأغنياء، وكما يُنسى الضعفاء في حضرة الأقوياء. وجهًا تمنى لو أنه لم يُخلق، أو أن الحياة لم تجمعهما معًا…حتى وإن كان هو سبب وجوده فيها. راح حسان يحطم بيديه العاريتين تلك الإطارات الذهبية التي أحاطت بذاك الوجه العبوس، وراح يغرز أظافره فيها محاولًا تمزيقها. أعمى الحقد بصيرته، ولم يعد يدرك ما يفعل، ثمّ صرخ في نحيب يصمّ الآذان من شدته. لماذا لم يختفي من ذكرياتي كما اختفى من حياتي. لماذا يذيقني مرّ العذاب حتى في خيالي. لماذا… لماذا.
وراح يضرب الأرض بيديه وينتحب دون شعور.
في اليوم التالي، نُشرت الصحف وتوسط وجه حسان صفحاتها الرئيسية وخُلد اسمه في عناوينها العريضة "حسان الشاب المتهور وُجِد ميتًا تحت عجلات القطار".
تعليقات
إرسال تعليق